لم أكن أعرف نجيب محفوظ منذ مدة طويلة. كان اسمه حاضرًا في مناهج الدراسة قطعًا طوال سنين التعليم، وكان اسمه يتردد في الأجواء دائمًا، خاصةً حين ارتبط بجائزة نوبل. ولأن أفلامه التي كتبها، أو رواياته التي تحوّلت غالبيتها لأفلام، كانت تُذاع كثيرًا، فلم يكن هناك شعور بالحاجة إلى قراءة أعماله. خاصةً وأن الميزانية لطالب في الإعدادية أو الثانوية العامة لا تسمح بهذا الترف.
وحين بدأت الكتب التي تتحدث عن عظمة محفوظ وروعة كتاباته ورمزياتها تصدر في كل مكان، شعرت بالرهبة أن هذا الرجل ليس للمبتدأين قطعًا. وتحتاج قراءته إلى جرأة وعقل متقد، لا أمتلكهما بعد.
لكن في لحظة قررت أن أتعرف على هذا الرجل، بعد أن بدأت الكتب التي صيغت حول محفوظ تفقد بريقها، وأجد بعضها تطويعًا إجباريًا لأدب محفوظ، وتحميله أكثر من اللازم. خصوصًا والرجل نفسه في حواراته يتحدث عن أدبه ببساطة، وعن مراده من كتاباته بصورة أخف من كل الرمزيات المحيطة به.
للقراءة| أحمد مدحت سليم يكتب: نجيب محفوظ.. ذكرى لا تذبل
كانت البداية بمقال في كتاب بيت حافل بالمجانين الذي ينقل بعض حوارات باريس ريفيو. وجدت فيها محفوظ كاتبًا عطوفًا، وشخصًا محبًا للأدب، ويكتب ببساطة أبِ يحكي لأبنائه قصة، يريدها مسليةً وتحمل بعض المعنى، دون أن تتحول لخطبة وعظية من كثرة المعاني، ولا أن تصبح ثقيلة الدم من تخمة اللغة المنمّقة والأساليب المعقدة.
توطدت معرفتي بمحفوظ منذ سبع أو ثماني سنوات. قبل تلك السنوات كنت قد أنهيت قراءة غالبية أعماله، وأقتنيها. لكن لم أكن أعرفه، أدركت تلك المعلومة بأثر رجعي حين بدأت أقرأ حياة محفوظ وآرائه بدلًا من التركيز على أدبه وكتاباته. ثم حين تعمّقت المعرفة بيني وأستاذ عادل عصمت، المُحب لمحفوظ والمُخلص لمذهبه في الحياة، رأيت حينها وجهًا مختلفًا لنجيب محفوظ.
واستعرت من عادل عصمت طريقته في استحضار محفوظ ليجيبه على أسئلته الصعبة أو يساعده في حل المعضلات التي تبرز له لحظة الكتابة. فرأيت حينها محفوظ يجيبني بصوته الهادئ عن التساؤل الذي أظنه يشغل الجميع دائمًا: هل أجيد الكتابة أم لا؟
فتلقيّتُ من محفوظ الإجابة عبر مجموعة قصاصات لعادل عصمت. قال محفوظ، وهو يخاطب شابًا يقول له الشاب أنه يستطيع كتابة القصص، «إن كنت تمتلك الموهبة فهذا حظ جيد، وإن كنت لا تملكها وترغب من كل قلبك أن تكتب القصص، تمرن حتى تتقن هذا الفن، مثل العزف، حتى لو كتبت أخبار الجرائد في شكل قصص. »
من السهل أن تُلقى النصائح من أي أحد، لكن الصعب أن تكون النصائح صادرة من شخص مُجرّب. يمنحك بكلمات بسيطة خلاصة رحلته في الحياة، وثمرة بحثه الطويل. حينها تكون النصيحة بمثابة القانون، حتى لو لم تكن موافقةً لهواك، أو جرّبتها ولم تُفلح معك، لكن قائلها قد عاشها واقعًا لا تنظيرًا مثاليًا.
لذلك كان محفوظ هو المثال الذي تتطلع إليه، لا لمجرد حصوله على جائزة عالمية، لكن لمعرفة الدرب الصعب الذي سلكه لهذه الجائزة. وكيف عاش يكتب من أجل الكتابة فحسب، لم ينتظر الجوائز أو الإشادات. يفرح بها قطعًا، لكنه لا يغتّم لغيابها، أو يرى قلّتها دليلًا على فشل عمله.
فقد تعلّمت منه أنه بعد مرحلة صعبة من المجاهدة مع الكتابة، وممارسة الكتابة كفعل يومي إجباري، وإرغام النفس على الجلوس والكتابة حتى في غياب لحظات الحماس والشغف، وتسّويد الصفحات البيضاء بالكلمات حتى لو لم تكن الكلمات على قدر توقعك، لكن تكتب كي تغرس روتين الكتابة في يومك. بعد كل هذه الصعوبات سيتكشف لك أن متعة الكتابة في الكتابة ذاتها، لا في لحظة النشر أو لحظة الإشادة من النقاد، أو حتى في لحظة اكتمال العمل أصلًا. فالثمرة لم تكن هي المطلوبة من الأساس، بل العملية المتعبة والممتعة في سبيل تكوين تلك الثمرة.
تلك القناعة تمنحك حريةً من قيود كثيرة ستُلقى عليك لاحقًا. طالما خرجت لأضواء الكتابة وسوق النشر، ستظل متلهفًا لقيمة مضافة تخبرك أن هذا عمل جيد، وأن كتابتك تستحق المديح، أو تشتاق لأن يحتل اسمك قائمة أحد الجوائز. لكن حين تؤمن أن متعتك هي في خلق النص ذاته، وفي سرقة لحظات من يومك الثقيل للكتابة، لحظتها ستدرك أن المكافئة التي تمنحها لك الحياة هي أن تُجري الكلمات على قلبك فتنتقل للورق. وعليك إذن ألا تكون طماعًا، وأن تكتفي بجائزة الكتابة نفسها.
وهو ما يجعل نموذج محفوظ يجب أن يحيا في ذهنك دائمًا. خصوصًا في عالم أصبح كل شيء فيه سائلًا، وأصابت السيولة كل الأكواد الأخلاقية والمشاعر. وأصبحت الفوضى هي أساسه. فبعدما أقنعت الحداثةُ البشر أن كل شيء يجب أن يكون منسقًا ومرتبًا، وأن هناك مُقدمات يجب أن تؤدي لنتائج محددة، وأن العلم دائمًا يملك الإجابة عن كل شيء؛ أصبح عالم اليوم -عالم ما بعد الحداثة- غير مؤمن بكل هذا التنسيق والتراتبية.
في تلك اللحظة ظهرت نظرية الفوضى لتُوضِّح للإنسان جانبًا مما يراه، وأن هذا اللا نظام المحيط به هو في واقعه نظام بصورة ما. وعلى الإنسان أن يبحث عن المعنى في تلك البيانات المشوشة. فتصبح الفوضى المادة الخام التي يتشكل منها الترتيب، لا أن تكون الفوضى نقيضه. أو يقف الإنسان موقف المتأمل من الفوضى حوله، محاولًا إيجاد الترتيب الموجود مسبقًا في هذه الفوضى المتوهمة.
انتقلت تلك النظريات إلى الأدب. فباتت الأعمال الأدبية من منتج خطي له بنيان محدد إلى عالم من الدوامات المتداخلة، تبدو كلها مجرد دوامات، لكن عند التركيز فيها يجد الناقد أو القارئ فيها إبداعًا وإضافة في كل دوامة عن الدوامات الأخرى. وأصبح المبدعون يتنافسون في اختلاق أساليب جديدة للكتابة، فلم تعد جدّية الفكرة أو أصالتها العامل الأساسي في العمل الإبداعي، لكن كذلك باتت طريقة التنفيذ. وبما أن المعتاد هو النسق المنظم، فإن الجديد صار هو الخروج عن النظام، مما يعني بكلمات أخرى اللجوء للفوضى.
انتقلت الفوضى من النصوص والمنتجات الإبداعية إلى حياة المبدع نفسه. وبدأت حالة من الإيمان بالفوضى الحياتية سبيلًا وحيدًا للإبداع. وأن الفنان يجب ألا يلتزم بأي روتين يومي أو وظيفي مثلًا، لأن هذا الروتين سيقتل إبداعه ثم يأكل روحه الشفافة. ما بدا مرعبًا لي، كشخص روتيني ممل وموظف حكومي، هل الفوضى هي السبيل إلى الإبداع، وهل الروتين يعني دائمًا خفوت شعلة الإبداع، ومقدمة لموت المُبدع؟
لمرةٍ جديدة يتدخل نجيب محفوظ يطمئنني ويخبرني أنه قد التزم بالعمل الحكومي حتى بلوغه السن القانونية للمعاش، رغم أن أعمال محفوظ السينمائية تحديدًا كان بإمكانها توفير دخل محترم له ولأسرته، لكنه آثر التمسك بالوظيفة كعلامة على استمرار روتينه اليومي. فيكتب لمدة ثلاث ساعات متصلة، ثم عند الساعة السابعة يبدأ ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة. ويقول إنه كان يضطر للنوم كي يستيقظ صباحًا للوظيفة، لأن الموظف يجب أن يكون ملتزمًا بأقصى درجات الالتزام.
رغم أن محفوظ قال لرجاء النقاش في كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» إن الوظيفة التهمت من عمره 37 عامًا، وإن تلك الأعوام كانت ظلمًا كبيرًا له، لكنه استدرك أن الوظيفة هي من أمدته بنماذج بشرية مختلفة لم يكن ليقابلها على المقهى، أو في دائرته الاجتماعية. وأن الوظيفة من علمته كيف يستغل باقي يومه.
هكذا بتلك الإجابات الصادقة والبسيطة يقدم لك محفوظ أغلى ما يمكن أن يُقدم في عصرنا، الأرضية الصلبة التي تمنعك من الانهيار في لحظات اليأس أو الانجراف في لحظات النشوة. فمحفوظ يساعدك في الوقوف على جزيرة راسخة من القواعد والالتزام الأخلاقي تجاه كتابتك وتجاه مجتمعك. حتى لو لم يكن هو، أو تكن أنت، شخصيًا ملتزمًا بهذه القواعد، أو تمرّد عليها حينًا ثم عاد إليها مرة أخرى، لكن ثمة إطار عام من القواعد يشبه الفنار في ظلام البحر، سيرشدك إليه متى احتجته، ومنه يمكن أن تنطلق من جديد.