كتب: محمد أسامة
لعناوين القصص والروايات سر مدهش، فمع دورها بإكساب المحتوى المتناثر هوية تنظمه، فإنها تحاول أن تثبت نفسها بأن تتعانق مع ذلك المحتوى، فتبحث في شخصياتها أو أحداثها، أو نتاج تفاعلهما معا، وربما تدقق في البحث أكثر فتلتقط عقدة الشخصيات وأزمتها وتستخلص من روحها “المعذبة أو الهانئة أو الضجرة” كلمات بسيطة تصلح لأن تكون دليلا لعالم له تعقيداته وتفاصيله، بل ورموزه الملتفة على شخصياته.
وفي تلك الرواية “رواية لعبة البيت للكاتبة إيمان جبل الصادرة عن دار دوّن” نال عنوانها حظا وافرا بالتقاطه سر ما جمع تلك الشخصيات -باختلاف تفاصيلها- في متوالية تسلم إحداها “أي الشخصية” للأخرى، ومنه أيضا “بالتكامل مع التداعي الحر لشخصية ليلى” كان نافذة جمعت بين مرارة واقع الشخصيات المعاش “السطوة والقهر بين الأهل وذلك بداية من قصة السيدة جي” وبين نظرة البطلة الساخرة من تتابع الأحداث وتكرار الأخطاء، والتي تختزل تلك المآسي بأنها “لعبة” تتنقل فيها أدوار الضحايا والجناة بخفة وكذلك العُقَد.
مدخل لفهم الذات
ولفهم تلك اللعبة وبسط ألغازها، كان من ليلى أن ترى دنياها كطفل يجرب صوته في غرفة فارغة، يتردد صداه إلى أن يختفي، ولأن ليلى تبحث عن ذاتها المتوارية خلف انحرافات الزمن “أي أثر أهلها في تدمير شخصيتها والعبث بها وأثر سجنها في تسويد حياتها وفقدانها لمعانٍ مثل العناق مثلا”، كانت تريد أن تفهم أصل الكلمة “أو العقدة ” التي أطلقتها الدنيا، لتحرر نفسها من سجنها المزعوم.
لذا كان من وجود ابنة أخيها ماتيلد -التي نالت صفاتها هي الأخرى حظا من اسمها “وبالبحث عن معناه كان يعني المناضلة بالجرمانية”- فكانت تقاوم لإحياء الألاعيب والحيل الموروثة فتجسد شر السابقين دون أن يعكره أي شيء بالرغم من حنان عمتها، فكان وصفها بأنها تعيش في بين النور ليلا ونهارا وصفا في محله يتمم مراد “ليلى” في استيضاح ملحمة العقدة، فكانت “ماتيلد” شديدة الشبه بالمصباح المضيء في مكانه “شمس مضيئة في الأسفل” وفي كونها نافذة لرحلة النفس في أثر تلك العقدة “من خلال الجدارية المنحوتة”.
ومنه كذلك تجلت مبررات حبس العمة لماتيلد، وكأنها -من خلال خبرتها المريرة- أدركت انتقالها من الضوء للظلمة- وكذلك المنطق والجنون، سيزيد من تخبطها الذي يولد شرارة بسيطة تستخلص منها-كما يستخلص الأولين من سرد الآخرين عنهم في كتب التأريخ” صورة صافية بين صراع ذاتها وعقد الماضي “تماما كالشرارة “مسحة الحزن” التي منحتها ليلى لعاصم في تحليلها لأغنية لا إنت حبيبي”، ومن ثم ينتهي دورها لتصنع نهايتها الخاصة كما أرادت.
رحلة الطريق والعودة للأغنية القديمة
وإن نظرنا إلى داخل القصة أو أردنا إجابة لتعميق ليلى للمعاني والمشاعر بلغة صعبة والإغراق في التوصيف والرموز، سنرى رحلة تشاركت فيها مع شخصيات مثل سارا ومارينا -وبحضور قليل للسيدة جي ومراد- للسعي إلى إدراك حقيقة الذات والتفريق بين الجذور والأصل والمنفى كذلك، ويحف هذه الرحلة محطات من دهشات وآلام تطبع على قلب صاحبها فينفزع ويتوقف كل مرة، إلى أن يصل لأصله وجذوره ويفهم حقيقة نفسه، ليصير ظلا للإله بتساميه عن أقرانه الحيارى “بغض النظر عن حجم الألم”.
ولعل هذا ما جعل خط الأم المكلومة مارينا سريعا جدا إذا ما قارناه بليلى أو سارا، فالأم -بمسيرة فاجعتها- لم يوقفها إلى شعور الخوف من الموت والفقد، وبفضل دهشتها وتوقفها استطاعت التعافي وإدراك فلسفة الموت نفسه، أما ليلى بطول سجنها وتتابع نكباتها، وسارا بتوالي صدماتها، اختفت الدهشة أو الصدمة التي تعيد ترتيب التجربة والحكم عليها في تلك الرحلة، فصارت مسيرتهم حضورا بائسا، بلا معنى ولا جدوى منه، فكان صمت سارا إعلانا ليأسها ورغبة في تلاشيها.
ومنه حاولت ليلى -إنقاذا لنفسها ولخليلتها سارا- بإعادة شيئا
من الدهشة الأولى، تحاول بيديها “المعول الوحيد” تصميم خط جديد للزمن “كما تحرك أثاثها” ولذلك فإن كلماتها مشبعة بما قاسته من تعقيدات وجمود، يحول الحنين نفسه إلى صنعة تغلف التجربة كلها ويواري أثر الآلام، وكذلك تجعل للدمع وقتا والابتعاد والوصل مدد وفترات محددة وهكذا في رحلتها الطويلة المتخبطة بين إرادتها المطلقة وخدعة الحكاية لها “في جدليتها عن البيت الذي يكتب نفسه”، مدركة بذلك أن المخلص هنا يدها فقط وذاتها.
ملاحظة: بالنسبة لسارا يختلف الوضع لكون ألمها جديد عليها، فكان مما رأيته من صمتها ثم حديثها الخافت، أنها تستعيد طفولتها، وهناك المنبع للدهشات الأولى التي يتلقاها الطفل بخفة وسعادة كأنه يلعب مع زمنه.
ملاحظة أخرى: لا يختلف مراد عنهم، فهو في تنويعه واستغلاله للشخصيات ضائع مثلهم، لكنه -كما أرى- أعماه سجنه -سجن البيت والموهبة المفروضة- فصار يجد من تيهه هدى يجعله يفرغ أحكامه وتبريراته كأنه يعلم كل شيء.
عن علاقة الروح بالجسد
ولكي تستقيم الرحلة إلى البيت “أصل الذات كما ذكرناه”، وتتخفف من وطأة التعقيدات التي تصيب باليأس، تتشكل هبة من البساطة والحرية، مختلطة بالإخلاص والبراءة “وكان ذلك في عاصم”، لتمتزج بتلك التعقيدات فتبصرها طرق الحل والنجاة، ولكن ميراث الخوف يجعل الإنسان “ليلى” منكرا لتلك الروح الخفيفة محاولا إبعاد تلك الروح عنه “خوفا من تلويثها باعتبار نكباته خطاياه” ورغم ذلك يبدي صبرا وإخلاصا لرؤيته الجمال الصافي الممتزج مع المحاولة المتعبة “في إهداءاته المتعددة لليلى”، رغم عجزه في فهم الرموز والألغاز التي تلتف حوله
“الروح تسمو والجسد يطوف فيك.. لا تنخلع من أرضي فتخطفك منافيك”
لكن بين الشد والجذب “بين مفهوم الحنين لدى ليلى وبواعثه من عاصم”، تنتج شرارة من يأس “قصتنا حبيبي شلعها الهوى” تسلم بها بحاجتها إليه كحاجة الروح للجسد “في مكوثها ببيته وحلمها عن القبلة الممتدة”، إن ضاع إحداهما غرق الآخر، كما السيدة جي، وتتردد صدى العقد مرة أخرى.
الخلاصة: أراه عملا رائعا، ذا مشاعر صادقة جدا جعلتني أتأثر بها، إلا من تعقيدات اللغة والفلسفة على لسان ليلى، فقد كانت رغم تبريري لوجودها مشوشة للشخصية بعض الشيء.