الإثنين, ديسمبر 23, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتمحمد عبد العال يكتب: خلف المنصة (5).. سجائر ضد الاحتراق

محمد عبد العال يكتب: خلف المنصة (5).. سجائر ضد الاحتراق

في مايو من كل عام تستعد البيوت المصرية؛ لاستقبال أثقل ضيوف العام، ينصرم رمضان ببهجته وما يقدِّمه من دراما لندخل في دراما واقعية لا يطيقها أحدٌ، ورغم ذلك يجب أن تتحملها؛ فأنت لا تملك الانصراف من شاشات حياتك الطبيعية، يأتي هذا الضيف العنيف الممل الذي تغلق معه الشاشات ولا يترك مجالا إلا للتنبيهات، فيقضي على كل ذكرى رمضانية سعيدة، إنه موسم الامتحانات.

هكذا كنا نعيشه جيل السبعينيات والثمانينيات، كنت أعتقد أن تلك الأجواء من أصعب ما عاصرت حتى هالني ما رأيت مؤخرًا، كنت أتصفح الفيس بوك فإذا بإحدى الصفحات تدعو لاقتناء سماعات الثانوية العامة، ظننت أن هذا اللقب مجرد مسمى، كما نطلق على بلح رمضان، أبو تريكة أو المدفعجي أو الهداف، وما إلى ذلك من ألقاب ترفيهية، لا ترتبط بمعنى عميق لما نطلقه عليه، ولكن اتضح بالفعل أنها سماعات الغش في امتحانات الثانوية العامة، سماعات ترتبط بجروبات على الواتس آب برسالة بمقابل مادي، السماعات السحرية تستطيع أن تغافل بها أي مراقب، والأغرب أنني رأيت أعدادًا غفيرة انضمت إلى تلك الصفحات والجروبات، لنا أن نتصور جيلا يصعد درجات السلم بهذه الطريقة، أصبح الغش سلعة مقبولة نجاهر بها؛ لنضمن بها للأسف فساد المستقبل. (الغش يفسد المستقبل).

أتذكر بمناسبة هذا الحديث كيف خرجت الجميلة نفرتيتي من مصر، بالغش عندما أقنع الأثري الألماني لودفيج بوكهارت المصريين عام 1912 بأن هذا التمثال مصنوعٌ من مادة الجبس وليس الحجر الجيري، تلك التحفة الجميلة حاولنا دون مرة أن نستعيدها مستندين على أن خروجها لم يكن إلا بالغش ولكن هيهات أن تعود! أتدرون ماذا قال عنها هتلر عندما طالبه السنهوري باشا وزير المعارف -وقتها- باستعادة تلك الجميلة؟ قال: إننا على استعداد لشن حرب ضروس للإبقاء على هذه الجميلة. (الغش يُضيع الجمال). الغش يفسد التصرفات، قاعدة قانونية مسلمٌ بها ومن بديهيات الثقافة القانونية، يعرفها المواطن العادي بجملة واحدة “ما بني على باطل فهو باطل”.

وأتذكر حادثة قانونية بمناسبة هذا الأمر، ففي أحد الأيام اشترى رجل علبة سجائر غالية، فأمَّن عليها ضد الحريق، وبعد أيام من سداده أول قسط من أقساط التأمين، طَالبَ شركة التأمين بقيمة التأمين كاملة، لأن الخطر الذي أمَّنَ منه قد تحقق؛ فقد حُرِقَت السجائر بالفعل، تناولها ودخنها واحدة تلو الأخرى، كانت المستندات أمام القاضي، ومنها العقد يظهر فيه الشرط واضحًا؛ فقضى له بقيمة التأمين، فاستأنفت الشركة الحكم واستندت -بكل ذكاء- إلى أن الحكم قد أخطأ، متناسيًا أمرًا مهمًا، ألا وهو أن المدعي الذي يطالب بقيمة التأمين هو من أفتعل الحريق وأحرق السجائر. (الغش قد يفسد العدل).

الغش، يا سادة، قادر على إفساد كل شيء، ولكن أخطرها على الإطلاق عندما تتعلق بالعلاقات الإنسانية البحتة، قد نتجمل في علاقتنا مع من يتمناه القلب رفيقا، بعد أن نظن أنه المناسب أوفرصة نادرة؛ لنواجه مشكلة، تضحى كارثة، فقد بلغ السيل الزبى، وبلغ التجمل مرحلة الغش! وليس ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي منا ببعيد، ولنا فيه موعظة، فمن سجدة شكر للارتباط بالمطرب حسن شاكوش إلى طرقات النيابات والمحاكم في أقل من شهرين.

أتذكر بمناسبة هذا حادث الزباء بنت عمر بن الظَّرب؛ حيث كانت العراق منقسمة ‏إلى مملكتين هما مملكة الحيرة ومملكة تدمر، أواخر القرن الثالث الميلادي، وتولت الزباء حكم مملكة تدمر ‏بعد أن قتل والدها “عمرو بن الظَّرب” على يد الملك “جذيمة الأبرش” حاكم مملكة الحيرة في ذلك الوقت لوجود ‏خلافات كثيرة بين المملكتين، ‏وبعد أن استلمت الحكم، واستقرت أمورها أرسلت إلى جزيمة رسالة تطلب منه المجيء لتدمر؛ للزواج منها، لكي تتوحد ‏المملكتان، فلما وصلته رسالتها جمع كل مستشاريه في القصر، ‏وأطلعهم على الأمر، فأجمعوا على الموافقة، ماعدا ‏مستشاره “قصير بن سعد” الذي شعر بمؤامرة في الرسالة، فأشار على الملك أن يطلب إليها أن تأتي هي، فلم يسمع له، وأرسل في طلب ابن أخته “عمرو بن عدي” ليوليه الحكم حتى يعود. وانطلق نحو ‏مملكة تدمر فلما دخل غرفة الملكة وجدها بكامل ملابسها الحربية، وبادرته قائلة جئت تطلب موتك لا عرسك وقتلته في ‏الحال، وأراد عمرو أن ينتقم لموت جذيمة؛ فاتفق مع قصير على أن يذهب للزباء زاعمًا أن عمرًا قد عذَّبه، لأنه أشار على جذيمة بالزواج منها، وانطلت عليها الحيلة وكسب ثقتها حتى أنه كان يذهب للتجارة ويأتي إليها حاملًا الهدايا. حتى جاء يوما يحمل أجولة، ما لبث أن فتحها ليخرج من كل جوال جنديٌ من جنود عمرو، وهمت بالهرب لولا أن لقت عمرًا عند باب القصر، فقالت قولتها المشهورة، وتجرعت السم الموجود بخاتمها، وعاجلها عمروٌ بسيفه أيضا.

إن الغش يفسد الماضي والحاضر والمستقبل، يفسد العدل والجمال، يفسد كل شيء، يضيع معه أي أمل في العدالة، فمع الغش لا عودة، ولكن ماذا عن هذا الجيل الذي ضيَّعه الغش؟ لقد أصبح الغش عرفًا نلوذ إليه في كل لحظة، ألا يخدع هذا الجيل نفسه بالاستماع إلى مجرد صرخات مدوية لا علاقة لها بالشجن والفن!

قد تعود نفرتيتي في يوم ما، ولكن لن يعود هذا الجيل، ولن يستمتع بأي جمال؛ فهو لا يدرك معناه، ولن نتعجب إن عادت نفرتيتي؛ ليلبسوها سماعات الثانوية العامة؛ لتكتسب خبرة الحاضر التعس، وتستمع إلى صوت شاكوش.

محمد عبد العال الخطيب
محمد عبد العال الخطيب
كاتب مصري, من مواليد الأسكندرية عام 1974، يشغل منصب نائب رئيس هيئة قضايا الدولة وعضو إتحاد كتاب مصر شعبة الرواية، صدرت له عدة روايات منها “البهلوان”، “أخطر الرجال” و “تحت الحصار”, "الأخدود", "أرض بلا ظل" وعدة كتب تاريخية منها “قضايا الدولة عبر التاريخ”، “عصر النخبة”، و “قناة السويس من المهد حتى التحرير”. وتعتبر "وأحترقت أوراق القضية" أحدث رواياته الصادرة عن دار دوّن.
مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات