إسراء إبراهيم
مُختلف عليه ومثير للجدل، محبوب ومؤثر للغاية في بعض الطبقات المجتمعية، لا زال اسمه مرتبطا بالعلم والإيمان معا. اكتسب شعبية كبيرة جدا ببرنامجه الأشهر “العلم والإيمان”، وكذلك الحكايات التي تدور عن إلحاده بسبب مروره بعدة تحولات فكرية كبرى في حياته.
جمع بين التصوف والعلم والزهد، حياته مربكة لمن يقرأ تحولاته الفكرية، ولمن يريد تكوين نظرة واحدة عنه. متهما بنشر الجهل تحت منصة العلم، ويراه البعض مفكرا عظيما فتح أبوابا لمن بعده للنقاش وعدم الاعتماد على المسلمات.
وفيما يلي أبرز المحطات في حياة المفكر الراحل مصطفى محمود، لنتعرف على قشور من حياته التي امتدت لما يقرب من 9 عقود:
المولد والنشأة
ولد مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ المعروف باسم مصطفى محمود في 27 ديسمبر1921 في شبين الكوم بمحافظة المنوفية بمصر. وكان له شقيق توأم يسمى “سعد” توفى رضيعا. وكان دارجا في ذلك الوقت وفاة الأطفال الرضع لذلك لم يستخرج لهما والدهما شهادة ميلاد إلا بعد أسبوعين من ولادتهما، وتم إثبات ميلاده يوم 27 ديسمبر بعد الولادة بنحو أسبوعين. وكان الأصغر بين إخوته.
ينتهي نسبه إلى علي زين العابدين من أشراف البيت النبوي، وكان يطلق على عائلته لقب الأشراف، وذلك لانتسابهم لآل بيت رسول (ص) إذ يرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد لأسرة متوسطة الحال، أم بسيطة وأب متدين وكان شيخا متصوفا، وكان يعمل موظفا حكوميا “حاجب محكمة طنطا”، وكان يحب القراءة كثيرا ويجيد اللغة الفرنسية، وتعلم “محمود” منه حب القراءة والعلم. ورحل والده عام 1939، بعد أن عاش لسنوات قعيدا بسبب الشلل.
انتقل مع أسرته إلى طنطا، وكانوا يسكنون بجوار مسجد السيد البدوي، أحد أشهر مزارات الصوفية في مصر مما ترك أثرا عليه في نشأته. وكان مصطفى محمود طفلًا انطوائيًا بسبب كثرة مرضه، وقال عن ذلك: “أتذكر في طفولتي أنني كنت أمرض بسهولة، والبرد يقعد معايا شهرين، أقوم من مرض أدخل في مرض، وجسمي ضعيف ومقدرتش أنافس زملائي في لعب الكرة والضرب والحاجات دي، كنت طفل انطوائى شوية”.
الدراسة
التحق بالكتّاب في عمر يقترب من الرابعة، ولم يستمر في الدراسة بسبب خوفه من الضرب، فكان يهرب من الكتّاب حتى تنتهي ساعات الدراسة. ثم التحق بمدرسة “الشوكي”، حيث كان يحفظ القرآن الكريم، ودرس اللغة العربية والحساب، ولكن انتشار الضرب منعه من الاستمرار في التعليم، ورسب لمدة 3 سنوات حتى تمكن من النجاح وتخطى المرحلة. ويقال إنه كان محبا للعلم ويجادل أساتذته حتى ضربه مدرس اللغة العربية فغضب وانقطع عن الدراسة لمدة ثلاث سنوات إلى أن ترك المدرس المدرسة فعاد للدراسة.
بعد ذلك ظهرت عليه علامات التفوق، وحبة للقراءة والأدب. وارتاد مدرسة طنطا الحكومية لاستكمال دراسته الثانوية. وكان يتمتع في تلك المرحلة بحبه للأدب والشعر، وكان محبا للعلوم والتجارب العلمية، وكان يتمنى أن يصبح رحالة أو موسيقارا أو عالما أو مخترعا أو بطلا من أبطال التاريخ، وكان يجمع بين كل هذه المواهب مشغولا بها عن أحوال الدنيا كلها.
من الطب والتشريح إلى الأدب
التحق بكلية الطب في جامعة القاهرة لتحقيق رغبة والده، ومارس مهنته عدة سنوات بعد التخرج. وكان متعلقا بالعلوم والتجارب ما دفعه لإنشاء معمل صغير بمنزله عام 1939، كان يصنع الصابون والعطور، ويشرح الضفادع، ويستخدم الكلور في قتل الحشرات. وأجرى تجارب تتعلق بالبطاريات والكهرباء، ونفذ مع صديق له جهاز تقطير وميكروفون وجهاز لقياس النبض، فكان يصمم الجهاز وصديقه يقوم بتنفيذه باستخدام مواد بسيطة. وبدأ عمله خلال تلك الفترة في جريدة “النداء”.
اشتهر بين زملائه بلقب “المشرحجي”، لاهتمامه بتشريح جثث الموتى، لدرجة أنه اشترى نصف جسد ودماغا ووضعهما بالفورمالين لحفظهما وعكف على دراستها في البيت، مما أدى إلى إصابة جهازه التنفسي من رائحة الفورمالين، وأصيب بمرض في صدره في السنة الثالثة من دراسته الجامعية، مما اضطره إلى ترك العمل الدراسة لمدة 3 سنوات، كان فيها منعزلا ومهتما بالقراءة والتفكير، وبدأ خلال تلك السنوات كتابة القصة القصيرة. وبعد التعافي عاد إلى مقاعد الدراسة، وتخصص في الأمراض الصدرية وتخرج عام 1953.
كان خلال دراسته الجامعية، ينشر في العديد من الصحف والمجلات مجموعة من مقالاته وقصصه القصيرة. وحمل أول عمل أدبي له اسم “القطة الصغيرة” إذ نشره في مجلة “الرسالة” بتشجيع من الأديب عباس محمود العقاد، الذى كان يقرأ قصصه كشاب ناشئ على ضيوف صالونه الأدبي في ندوة الجمعة.
خلال صالون “العقاد” تعرف على عدد كبير من الأدباء والصحفيين، وبدأ نشر مقالاته في جريدة “روز اليوسف” وهو طالب، وفي عام 1948 تعرف على الصحفى كامل الشناوي ونشر له أعماله فى مجلة “آخر ساعة”، ثم انضم إلى مجلة “التحرير” في سنة 1952، حتى أصبح كاتبا في مجلة “صباح الخير” ومحررا في باب “اعترفوا لي” للرد على رسائل القراء. وتفرغ للكتابة والبحث بدءا من عام 1960.
ترك الطب من أجل الصحافة، إذ كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أصدر وقتها قرارا بمنع الجمع بين وظيفتين، فقرر “محمود” الذي كان يجمع بين عضوية نقابتي الأطباء والصحافيين، الاستغناء عن عضوية نقابة الأطباء والعمل بالصحافة.
ويصف مرحلته الجامعية بأنها الأصعب في حياته، حسبما ذكر في مجلة “صباح الخير” عام 1966، والتي سادها تيارات مختلفة أحزاب وجماعات إسلامية ووفديين وإخوان مسلمين وكان الأغلبية شيوعيين ولم يعد يفرق بين الحق والباطل بينهم، لكنه انعزل وانتابته حالة من التفكير والتفكير المضاد، فكان عاشقا للقراءة والبحث عن المجهول.
طلاق مرتين.. وانعزال دائم
تزوج “محمود” مرتين، زواجه الأول كان عام 1962 من السيدة سامية وقال عنها في مذكراته إنها نصفه الآخر الذي لازمه قرابة 10 سنوات، وكان أكثر ما يؤرق حياتهما أنها كانت غيورة رغم أنها كانت تصغره بـ15 عاما وأنجب منها أبنائه أمل وأدهم، وانتهت الزيجة عام 1973.
ثم تزوج بعد ذلك من السيدة زينب حمدي عام 1983 واستمر الزواج 4 سنوات، لينتهي عام 1987. وكان فارق العمر بينهما 25 عاما. ويُرجع مصطفى محمود السبب في فشل زيجاته إلى اختلاف الطباع، وميله للعزلة والانطواء. ولم يجدد “محمود” الزواج مرة أخرى واستقر في جناح صغير لا يزيد على 80 مترا في مسجده بالمركز الإسلامي.
عشق الناي والغناء
خلال فترة شبابه عمل مع راقصة كعازف على الناي، ورفضت والدته ذلك العمل بشدة. ويقول عن ذلك أنه أثناء دراسته الجامعية عشق العزف على الناي، مردفا: “لقد شاء القدر أن أتعرف على عبد العزيز الكمنجاتي والراقصة فتحية سوست، وكانا أصحاب فرقة لإحياء الأفراح والطهور واتفقا معي أن أنضم لفرقتهما ووافقت دون مقابل مادي وهذا ما أثار دهشتهما، لكني قلت لهما أنا أهوى العزف فقط ولا أنوي احترافه.. لقد انزعجت والدتي من عشق ابنها للناي خاصة بعد تكرار مجيء الأسطى عبد العزيز لمنزل العائلة ولسانه يردد لها عبارة واحدة يختلف فيها اسم المكان الذي يشير إليه لحضور مصطفى للحفل سواء في درب البغالة أو في الأنفوشي أو في السيدة، ولذلك كانت الوالدة تعنفه بشده وتغضب لما يقوم به ابنها”.
تقول ابنته أمل عن حبه للناي في تصريحات صحفية: “كان منذ صغرة يحب ويأثره صوت (الناي)، وكان عنده أكثر من ناي بأشكال مختلفة، لأنه يرى الناي فيه حزن وعمق ودفء، وعندما وصل لمرحلة الشباب أحب العود وهذا نشأ مع صداقته لموسيقار الأجيال الفنان محمد عبد الوهاب، والصداقة بدأت عندما كان والدى يكتب في باب (النقد الفني) في روز اليوسيف والنقد سواء عن أفلام السينما أو الأغنيات وقد أعجب عبد الوهاب بأسلوبه، ومن هنا بدأ التعارف، ووالدي عشق الغناء لأن صوته كان حلوا ولكن حنجرته ضعيفة لذلك ابتعد عن فكرة الغناء”.
كذلك تحدثت طليقته الثانية زينب حمدي عن حبه للغناء خلال حوار صحفي، قائلة إن الكثيرين لا يعلمون أن مصطفى محمود يمتلك حنجرة ذهبية ويتمتع بصوت جميل وكان دائما يدندن على العود الذى يمتلكه وفى أول لقاء بينهما أهدى لها أغنية “الحبيب المجهول”.
تناول الخمر
مثلما مر بالعديد من التحولات الفكرية، خاض أيضا المفكر الراحل عدد هائل من التجارب الإنسانية والحياتية، واعترف في مذكراته بتناوله الخمر، قائلا إنه فعل ذلك مع أصدقائه على سبيل التجربة، لأنه كان فى ذلك الوقت فى مرحلة الشك، وتجربة الأشياء، وشعر بعد تناول الخمر أنها ليس لها طعما أو مذاقا بل كانت تثقل جسده ومن هنا كره الخمور ولم يذقها بعد ذلك مطلقا.
من يخت يجوب العالم إلى مستشفى خيري
كرس مصطفى محمود حياته للعمل الخيري بدءا من عام 1970 وحتى وفاته، فقام بتأسيس مسجده الشهير في شارع جامعة الدول العربية بالقاهرة عام 1979، سماه على اسم والده “مسجد محمود” لكنه اشتهر باسم مسجد مصطفى محمود، ثم ألحق به مستشفى خيريا متخصصا. والمسجد تتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، بالإضافة لقوافل الرحمة التي تتكون من 16 طبيباً، ويضم المركز أربعة مراصد فلكية ومتحفاً للجيولوجيا.
كما بنى مركزا طبيا أسماه الكوثر، إلى جانب إنشائه جمعية تتضمن العديد من المراكز الطبية، ومراكز البحث المتخصصة بالطب البديل، والعلاج الطبيعي، كما تحتوي على 4 مراصد فلكية، ومتحف للجيولوجيا. وبلغ عدد المراكز التي تضمها المؤسسة 6 مراكز طبية كبرى، أصبحت تستقبل يوميا آلاف المرضى في شتى التخصصات.
في أواخر حياته زهد مصطفى محمود الحياة وانعزل عن الناس، ويقول عن ذلك إنه توقف أمام آية قرآنية قلبت حياته وهي: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم”.
يوضح: “حين سمعت هذه الآية ظللت أفكر وأبحث عن نفسى فيها وهل ما كتبته هو القول السديد وإذا سألني الله عما كتبت بعد الموت فماذا أقول له؟ ثم تحدثت مع صديق عمري الموسيقار محمد عبد الوهاب واختلفنا، هو يرى أن الفن حياة وشيء عظيم يمكن أن نقابل به الله، وأنا أرى أن الأعمال التي يطلبها الله إطعام جائع أو كسوة يتيم أو إسعاف مريض أو أي عمل خيري آخر”.
تابع: “قلت له يعني أنت ممكن تقابل ربك وتقوله أنا غنيت (بلاش تبوسني في عينيا)! ثم قررت بيني وبين نفسي أن أبدأ أعمالا يرضى الله عنها ففكرت في مستشفى تحمل اسم والدي تتضمن مراكز طبية وأبحاثا علمية، وكان التيسير من الله كبيرا وتدفقت الأموال على المشروع من مصر والخارج لتخرج إلى النور مستشفى محمود بالمهندسين”.
تقول ابنته أمل في حوار صحفي، إن والدها كان يحلم بشراء يخت يزور به العالم مع أسرته، لكن درس الموضوع بجدية ووجد أنه مكلف جدا، وبعد ذلك فكر فى أن ما يكسبه يقوم بتحويله كله للخير. مشيرة إلى أن والدتها عارضت الأمر حتى يشتري منازل لـ أمل وأدهم لحماية مستقبلهما، لكنه رفض وأخبرها أنه عاش بالضروري وعليهما نفس الأمر. موضحة أن أي مبلغ كان يحصل عليه يذهب للأعمال الخيرية.
وقفه عن الكتابة في عهد عبد الناصر
تسبب مقاله عن “هتلر” الذي كتبه في صحيفة “روز اليوسف” وقتها، وكان ينتقد فيه فيلما عن محاكمات “هتلر”. في وقفه عن الكتابةز وطالبه إحسان عبد القدوس وقتها بالتوقف لبعض الوقت عن الكتابة، مع استمرار حصوله على المرتب.
على خلفية الأزمة التقى “محمود” بالكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، والذي كان وقتها مستشارا للرئيس، وأخبره بإن المقال تم اعتباره إسقاطا على “عبد الناصر”. وتقول ابنته أمل عن تلك المرحلة: “كانت مرحلة صعبة لأنه كان متزوجا، ولديه أطفال، لكن زملاءه، ومنهم الشاعر كامل الشناوي، وأحمد بهاء الدين، ولويس جريس، وإحسان عبد القدوس، وقفوا إلى جواره وبذلوا مساعى كبيرة حتى أعادوه إلى الكتابة”.
قصته مع السادات
ذكرت طليقته زينب حمدي، أنه من بين الشخصيات المقربة إليه ويحبها، كان الرئيس الراحل محمد أنور السادات، كذلك جمعته صداقة قوية بإحسان عبد القدوس والشيخ متولي الشعراوي، والموسيقار محمد عبد الوهاب. مشيرة إلى أنه لم يحب في حياته سيدة مثلما أحب شقيقته “زكية” التي كانت تكبره بسنوات والتي تولت تربيته ورعايته منذ الصغر.
ولعلاقة الحب التي جمعت “محمود” بـ”السادات” أثرها، إذ عرض عليه الرئيس الراحل تشكيل الوزارة لكنه رفض، ورفض توليه منصب وزير الثقافة أو الأوقاف. كما عرض عليه أيضا أن يكون رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال، ومستشارا له فرفض أيضا. وقال للرئيس لقد فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي الأسرة وقمت بتطليق زوجتي فكيف أنجح في إدارة وزارة كاملة!
وله قصة أخرى جمعته بالسادات، فيحكي أنه عندما تم تقديمه إلى المحاكمة بسبب كتابته سلسلة من المقالات جمعها في كتابه “الله والإنسان”، بناء على طلب من الرئيس جمال عبد الناصر. واعتبروها قضية كفر واكتفت المحكمة بمصادرة الكتاب دون أن توضح أسباب الحكم.
بعد وفاة “عبد الناصر”، عبر الرئيس أنور السادات لـ”محمود” عن إعجابه بالكتاب، وتم طبعه من جديد تحت عنوان “حوار مع صديقي المُلحد”، وهو ما أثار الجدل ضده مجددا وتم اتهامه بالإلحاد.
العلم والإيمان
قدم د. مصطفى محمود أكثر من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير “العلم والإيمان”. البرنامج الذي أكسبه شهرة كبيرة جدا سواء داخل مصر أو عربيا، على مدار عقود وحتى وقتنا هذا يرتبط اسمه ببرنامج “العلم والإيمان”. وكان البرنامج يُذاع أسبوعيا منذ عام 1971 إلى عام 1999.
هناك قصة عن بداية البرنامج، تشير إلى أنه كاد أن يفشل قبل بدايته، إذ عرض “محمود” فكرة البرنامج على التليفزيون المصري، ووافق التلفزيون ورصد للبرنامج ميزانية 30 جنيهًا للحلقة، إلى أن تكفل أحد رجال الأعمال تكفل بإنتاج البرنامج بالكامل.
توضح ابنته أمل في حوار صحفي، أن توقف البرنامج كان لأسباب غير معلومة، وكان والدها حزينا جدا على توقفه. وتشير إلى أن والدها كان يرغب في إعداد البرنامج فقط على أن يقدمه شخص آخر، ووقع اختياره وقتها على الإعلامي عبد الرحمن علي، الذي رفض تقديم البرنامج لأنه يناقش موضوعات علمية متخصصة وهذا ليس من اختصاصه، ليذهب إليه البرنامج في النهاية. وكان نجله أدهم أشار إلى أن وقف البرنامج كان قرارا رئاسيا.
محاولة تفسير القرآن.. ووقف من الأزهر
حاول الطبيب الراحل تفسير القرآن الكريم، في كتاب أطلق عليه اسم “محاولة تفسير القرآن بفهم عصرى”، ورفض الكثيرون تفسيره للقرآن الكريم باعتباره غير متخصص ولم يدرس في الأزهر. واجتمع مجموعة من علماء الأزهر الشريف وطالبوا بوقف الكتاب. ونُشرت كتابات منتقدة له، وأحيل للجنة بهدف التنقيح، ومُنع الكتاب لفترة، ثم سُمح له بالخروج للنور.
تحدثت أمل مصطفى محمود عن ذلك، قائلة: “لم تؤثر أزمة الكتاب علينا كأسرة لأن والدي دائمًا يفصل بين حياته الأدبية وعلاقته معنا كأب، وعادة يفصل بين الكتابة وبيننا، فـ وقت الكتابة لا يستطيع أحد منا أن يدخل عليه وهو يكتب إطلاقًا، ودائمًا يعوض فترات غيابه الطويلة باللعب معنا، فالجانب الذي لا يعرفه الكثيرون عن مصطفى محمود أنه يحب ألعاب الأطفال جدًا ويقوم بشرائها للعب معنا بها ومن ثم انتقل للعب مع أحفاده، وكان يهوى شراء الطيارات بداية من الطيارة الورق إلى الطيارة برموت كنترول”.
رحلة الشك
كان أبرز ما يميز المفكر الراحل هو تحولاته الفكرية الكبيرة، على مدار سنوات عمره. فكانت آراؤه وأفكاره ونظرياته محلا للجدل دوما، وكانت كتبه محل خلاف دائم، حتى أنه إلى الآن شخص مختلف عليه بين محبيه ومعارضيه، بين من يرون أنه كان ينشر العلم، ومن يرون أنه أعطى غطاء فكريا لبعض أفكار الجهل.
كان في بداية حياته يحب العلم والتجريب ورؤية الحقائق المادية الملموسة، ويرى أنه يقدم صورة بالغة الدقة عن الكون. وكان له تصور أن الله له صورة مادية وهو الطاقة الباطنة في الكون. واهتم للغاية بنظرية الطاقة الباطنة الخلاقة، وفكرة التناسخ. ووصل الأمر إلى انتشار فكرة عنه بأنه كان ملحدا، لكنه أكد على أنه لم يكن يوما ملحدا، ولم يشك في الحقيقة الإلهية أو وحدانية الله، ولكنه مر برحلة الشك المؤدي للإيمان لا للجحود. وأطلق على تلك المرحلة اسم المرحلة العلمانية، وكان موقفه من المسلمات الدينية هو موقف الشك.
كانت بداية رحلته الفكرية والأدبية مع أزمته الصحية التي مر بها خلال فترة الدراسة الجامعية، إذ استغل تلك الفترة في التأمل والتفكير والقراءة. وبعد خروجه من انعزاله وأزمته الصحية قدم ما يقرب من 30 قصة للأديب عباس محمود العقاد، والذي عرضهم على الأديب أحمد حسن الزيات، وبدوره نشر له قصتين في “مجلة الرسالة” عام 1948، التي كان يرأس تحريرها. كما تعرف “محمود” بعد ذلك على كامل الشناوي، الذي أتاح له المجال للكتابة في “أخبار اليوم”.
عقب تخرجه من كلية الطب، عمل في عدد من المستشفيات كالعباسية والجيزة، ثم انتقل بعدها للعمل في مصحة “ألماظة” وكانت في منطقة نائية، جعلته يكتسب وقتا إضافيا للتفكير والقراءة. وخلال تلك الفترة بدأ الكتابة في “مجلة التحرير”، وتعرف على يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، وثروت عكاشة الذي رشحه للعمل في مجلة روز اليوسف، وبدأ يكتب بانتظام وأصدر مجموعة من كتبه في الفترة بين عام 1954 و1958 تمثل هذا الفكر المتشكك، فصدر له كتاب “الله والإنسان” وبعض مجموعات القصص القصيرة مثل “عنبر 7″ و”أكل عيش”.
ومع مروره بحالات موت كثيرة خلال عمله، أفقدته الثقة في نظريته المادية بشأن معرفته عن الموت والحياة، فبدأت رحلة تذبذب أخرى منذ عام 1958 إلى بداية الستينيات، إذ أعاد التفكير في توجهه الفكري المادي، وكتب كتابه “لغز الموت”. بعدها التحق للعمل كطبيب في مستوصف “أم المصريين”، وبعد تعرضه لهبوط شديد في كريات الدم البيضاء بسبب تعرضه للأشعة أثناء فحص المرضى، اضطر إلى أخذ إجازة شهرين للتعافي، وفي هذه الإجازة أعاد النظر في عمله كطبيب، وكان محبطا من عدم قدرة الطب على علاج البشر علاجا حقيقيا، فقدم استقالته عام 1960 وتفرغ للكتابة.
عام 1962 سافر إلى الغابات الاستوائية، ثم الصحراء الكبرى، وأصدر بسبب تلك الرحلتين كتابيه “الغابة” و”مغامرة في الصحراء”. كما كتب في تلك الفترة بعض الروايات العلمية مثل “العنكبوت” و”رجل تحت الصفر”، ودراسات علمية مثل “آينشتاين والنسبية”. وفى أواخر الستينيات قرر دراسة الأديان في رحلة طويلة بدأت بالديانات الهندية، ثم البوذية والزرادشتية والنيوصوفية ثم اليهودية والمسيحية والإسلام، ليستقر على أن القرآن الكريم به كل ما يبحث عنه. وانتهت رحلة الشك إلى اليقين في الفترة ما بين عام 1970 و2009، فتوالت كتاباته في الإسلاميات مثل كتاب “القرآن محاولة لفهم عصري”، و”رحلتي من الشك إلى الإيمان” و”حوار مع صديقي الملحد”. وفى هذه المرحلة، اتخذ موقفا صريحا مناهضا ومضادا للفكر الماركسي والفكر الشيوعي، وظهر هذا التوجه في كتب عديدة منها “لماذا رفضت الماركسية؟” و”أكذوبة اليسار الإسلامي” و”سقوط اليسار”.
وفي مرحلة من حياته تأثر بالفكر الصوفي وشيوخه، مثل الشيخ النفري وابن عربي وابن عطاء الله السكندري والإمام الغزالي، وفي أواخر السبعينيات من كان الاتجاه الصوفي ظاهرا في كتاباته، ككتاب “الوجود والعدم” و”أسرار القرآن” و”القرآن كائن حي”. وأصدر كتابه ” الله والإنسان” في عام 1957، والذي كان عبارة عن مناقشة يشكك فيها بالمسلمات الدينية ويرفض كثيرا منها، وطرح فيها قضايا مثل مسألة القضاء والقدر، والجنة والنار، والصواب والخطأ، مما دفع بعض علماء الأزهر الشريف لاتهامه بالفسق وأحيانا أخرى بالكفر، فعارضوه بمقالاتهم، واستمر الضغط إلى أن مُنع الكتاب وسحب من الأسواق. وبعد سنوات أعاد النظر في الكتاب، نتيجة للتحول الفكري الذي يمر به مجددا وتأكد من أن النظرية المادية لا تفسر كل الأشياء.
وأدت أزمته الشهيرة المعروفة باسم “أزمة كتاب الشفاعة” عام 2000، لاعتزاله الحياة الاجتماعية. لأنها أدت إلى ثورة ضده حول أفكاره وإنكاره لشفاعة النبي محمد (ص). فامتنع عن الكتابة إلا من بعض المقالات في مجلة الشباب، وجريدة الأخبار.
يقول مصطفى محمود عن رحلته الفكرية: “ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل والحوار مع النفس، وإعادة النظر ثم إعادة النظر في إعادة النظر، ثم تقليب الفكر على كل وجه، لأقطع الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة، إلى لغز الموت، إلى ما أكتب اليوم من كلمات على درب اليقين”.
أزمة كتاباته عن شفاعة النبي
كتب “محمود” سلسلة من المقالات في صحيفة “الأهرام” عارض فيها فكرة “وجوب شفاعة الرسول محمد يوم القيامة”، وجمع تلك المقالات في كتاب. ودعا من خلاله إلى تنقية الأحاديث النبوية التي قال إنها “تعرّضت للعبث من بعض (الوضّاعين) خصوصًا أنها كُتبت بعد وفاة الرسول عليه السلام بمائتي عام”. وتسببت تلك المقالات والآراء في اتهامه بإنكار الشفاعة والتشكيك في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، ووصلت بعض الاتهامات إلى وصفه بـ”الملحد”.
وشهد في حقه وقت الأزمة، الدكتور نصر فريد واصل، مفتي الجمهورية السابق، إذ قال عنه: “الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل، ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الاطلاع والغيرة على الإسلام، فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين، وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلاميّة من الشوائب التي علقت بها، وشهدت له المحافل التي صال فيها وجال دفاعًا عن الدين”.
علاقة إسرائيل بوقف “العلم والإيمان”!
عارض المفكر الراحل مصطفى محمود، وجود الكيان الصهيوني وحذر من التطبيع وأطماع الكيان الصهيوني واتهمهم بتشويه الإسلام. وأصدر 9 كتب بالإضافة لعدد من المقالات خلال فترة التسعينيات لبحث القضية. ومن بين مؤلفاته في هذا الشأن: “إسرائيل.. البداية والنهاية” و”على حافة الانتحار” و”إسرائيل النازية ولغة المحرقة”.
اتهمت أسرة “محمود” في بعض الأوقات إسرائيل بتحريضها ضده، وضغطها على الحكومة المصرية لتوقف برنامج “العلم والإيمان” بحجة أنه برنامج تحريضي يشهر فيه بإسرائيل وبرنامجها النووي. كما ضغطت لوقف مقالاته في جريدة الأهرام بحجة معاداته للسامية، وواجه عزلا سياسيا في أواخر حياته.
وفيما يتعلق بذلك الموضوع، تحدث نجله أدهم في لقاء تلفزيوني أن السبب وراء اعتلال صحة والده هو جواب أرسله الدكتور أسامة الباز، مدير مكتب رئيس الجمهورية للشؤون السياسية، عام 1994، عقب نشر الراحل مقالاً في الأهرام أثار استياء القيادات الإسرائيلية والمنظمات اليهودية بعنوان “المعادية للتشهير”، وهو ما جعل “الباز” يرسل الخطاب إلى إبراهيم نافع، رئيس مجلس إدارة “الأهرام” ـوقتهاـ طالبا منه لفت نظر مصطفى محمود إلى حساسية الكتابة في هذه الموضوعات. مؤكدا أن الخطاب كان له بالغ الأثر على صحة والده، الذي دخل بعدها في نوبة حزن شديدة أثرت على صحته بشكل واضح، خاصة أن الخطاب امتد إلى الاعتراض على محتوى ومضمون برنامجه “العلم والإيمان”، مشيرا إلى أن إسرائيل لعبت دورا رئيسيا في توقف عرض البرنامج.
كما كشف أدهم مصطفى محمود أن والده ذهب للقاء صفوت الشريف، وزير الإعلام آنذاك، شاكيا له توقف البرنامج، ولما عرف بشأن الخطاب أدرك أن إسرائيل تمارس ضغوطا سياسية ودبلوماسية لمطاردة أفكاره، مؤكدا أن والده عانى من تدخلات الأزهر المتكررة أيضا لحذف مقاطع كثيرة من حلقات برنامجه، حتى إنه كان يضطر إلى الذهاب إلى شيخ الأزهر لمناقشته مرارا حول المقاطع المحذوفة.
وفاته
أصيب المفكر الراحل مصطفى محمود في نهاية حياته بعدد من الجلطات، أجرى على إثرها عدة عمليات جراحية في المخ والقلب في أوروبا، حتى رحل عن عالمنا في 31 أكتوبر عام 2009، عن عمر ناهز 88 عاما.
خرجت جنازته من مسجده في المهندسين حضرها محبوه، بينما غابت عنها قيادات الدولة.