الأحد, أكتوبر 6, 2024
Dawen APP
الرئيسيةمقالاتخلف المنصة (4).. حديث التاريخ.. عيش مصر وملح السودان

خلف المنصة (4).. حديث التاريخ.. عيش مصر وملح السودان

لعل أكثر العبارات تعبيرًا عن مشاعر الصداقة والأخوة في التعبيرات اللغوية العربية، عبارة “العيش والملح” فهي أكثر ما يستخدم للتعبير عن تلك المشاعر، وفى العلاقة بين مصر والسودان قد نجد من يُقصر كلمة العيش على مصر والملح على السودان، في إشارة إلى أن السودان كانت يومًا من أملاك مصر.

والحديث هنا للتاريخ وليس لشيء آخر؛ للوقوف على مدى العلاقة بينهما، ففي عام 1820 بدأ الفتح العثماني للسودان باستخدام الأورطة المصرية على يد إبراهيم باشا ابن محمد على، وإسماعيل بن محمد علي ومحمد بك الدفتردار زوج ابنة محمد علي، ودانت السودان لحكم الباشا وأبنائه في دارفور وكردفان وهرر وغيرها من أقاليم السودان التي كان يحكمها ملوك السودان وسلاطينهم، فمنهم من خضع استسلامًا ومنهم من دافع عن ملكه، وليس أدل على ذلك من “ود نمر” الذي قتل إسماعيل نجل محمد علي حرقا في تلك الفتوحات وهرب إلى الحدود الإثيوبية خوفا من انتقام الباشا، لقد كان الفتح العثماني للسودان بسواعد مصرية.

وعندما احتلت مصر سنة 1882، استخدمت بريطانيا الحيلة والدهاء في نقل أملاك السودان لها؛ فقد مكنت الثورة المهدية في السودان التي قامت مواكبة للثورة العرابية في مصر، أطلقت بريطانيا قذيفة واحدة أنهت بها على الغريمين، أرسلت رفاق عرابي بقيادة بريطانية تحت قيادة هيكس باشا؛ فكان هدفها واحدًا هو التخلص من عرابي، وتمكين الثورة المهدية؛ لتستولي هي على أملاك السودان، قُتل رفاق عرابي وبالفعل، مكنت الثورة المهدية، وعندما كان جوردون باشا البريطاني حاكمًا للخرطوم أرسلت بريطانيا بعثة بادعاء إنقاذه عام 1885، اختارت تلك البعثة أبعد الطرق وأكثرها استغراقا للوقت في حين كان هذا الرجل -جوردون- محاصرًا من محمد أحمد المهدي أو المهدي المنتظر؛ لتصل إليه بعثة الإنقاذ ولكن بعد قطع رقبته، فيكون هذا الحادث هو الحافز لإكمال خطة بريطانيا عام 1889؛ لإعادة فتح السودان التي استولى عليها المهديون؛ ليكون ذلك هو صك ملكية السودان لها.

قد تصعب العبارات على المواطن البسيط أو حتى على القارئ إذا ما اعترى اللفظ سوء فهم أو خالف الطبيعة، وليس أدل على ذلك من حادثة عام 1904 التي أشار إليها توماس رسل الذي كان حكمدار القاهرة ابتداء من عام 1914 في إشارة منه إلى انغلاق الفهم وصعوبته طالما خالف التصرف طبيعة الأشياء أو ما اعتاد عليه المواطن البسيط، فعندما منحت مصر إحدى الشركات الأجنبية امتياز البحث عن حقول الملح في جنوب الصحراء الشرقية وسواحلها على البحر الأحمر، كانت حقول الملح منتشرة، ويستخدمها العربان والنوبيين، وفي لحظة صار الاقتراب منها جريمة، نظمت الشركة حراسة على تلك الحقول وصار كل من يقترب من هذا المكان حتى ولو كان قد ولد فيه صار لصًا للملح، كيف يمكن أن نُفهم هذا الرجل البسيط أن الاستغلال قد انتقل من الدولة لشركة؟! كيف نفهم المواطن المصري أو السوداني أن الفتح كان تحت لواء الدولة العثمانية وبريطانيا؟!

مشهدان ليس أبلغ منهما في هذا النطاق: الأول: عندما اجتمع سعد باشا زغلول مع قادة الحزب الوطني؛ للحديث عن صيغة التوكيل المحرر لسعد باعتباره ممثل الأمة، فكان رأي أعضاء الحزب الوطني، ومنهم الأستاذ محمد ذكي أن يتضمن التوكيل طلب استقلال مصر والسودان، لكن رفض سعد، ورأى الاقتصار على طلب استقلال مصر، واحتد النقاش، حتى كاد سعد أن يصرف الحضور في تلك اللحظة، وهنا قال أعضاء الحزب الوطني هذا ليس بيتك إنه بيت الأمة، ومن هنا جاء لقب بيت الأمة، بسبب السودان، نعم؛ فمصر لا ترى عيشًا دون حرية السودان.

والمشهد الثاني: عندما تركت ثورة يوليه التي قامت في مصر عام 1952 حق تقرير المصير للسودان، غير طامعة في حقول ذهب السودان أو حتى ملح أرضها؛ لتسطر بحروف من نور شهادة العيش والملح كما يجب أن يكونا.

ما بيننا عِشْرة عيش وملح، سواء كان عيش مصر أو ملح السودان.

محمد عبد العال الخطيب
محمد عبد العال الخطيب
كاتب مصري, من مواليد الأسكندرية عام 1974، يشغل منصب نائب رئيس هيئة قضايا الدولة وعضو إتحاد كتاب مصر شعبة الرواية، صدرت له عدة روايات منها “البهلوان”، “أخطر الرجال” و “تحت الحصار”, "الأخدود", "أرض بلا ظل" وعدة كتب تاريخية منها “قضايا الدولة عبر التاريخ”، “عصر النخبة”، و “قناة السويس من المهد حتى التحرير”. وتعتبر "وأحترقت أوراق القضية" أحدث رواياته الصادرة عن دار دوّن.
مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

احدث التعليقات